فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ}.
مَدَحَهُم بعد ما أوقع عليهم سِمَةَ الاشتراء بقوله: {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ...} ومَنْ رَضِيَ بما اشتراه فإنَّ له حقَّ الردِّ إذا لم يَعْلَمْ العيبَ وقتَ الشِّراء، فأَمَّا إذا كان عالمًا به فليس له حقُّ الردِّ؛ قال تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ} [الدخان: 32].
ويقال مَنْ اشترى شيئًا فَوَجَدَ به عيْبًا ردَّه على مَنْ منه اشتراه ولكنه سبحانه اشترى نفوسَنا منه، فإذا أراد الردَّ فلا يردُّ إلا على نَفْسِه؛ قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ} وكما أنَّ الردَّ إليه فلو ردَّنا كان الردُّ عليه.
قوله تعالى: {التَّائِبُونَ} أي الراجعون إلى الله، فَمِنْ راجعٍ يرجع عن زلَّتِه إلى طاعته، ومِنْ راجع، يرجع عن متابعة هواه إلى موافقة رضاه، ومِنْ راجعٍ يرجع عن شهود نفسه إلى شهود لطفه، ومِنْ راجعٍ يرجع عن الإحساس بنفسه وأبناء جِنْسِه إلى الاستغراق في حقائق حقِّه.
ويقال تَائِبٌ يرجع عن أفعاله إلى تبديل أحواله؛ فيجد غدًا فنونَ أفضاله، وصنوفَ لطفه ونواله، وتائبٌ يرجع عن كل غيرٍ وضدٍ إلى ربِّه بربِّه لربِّه بِمَحْوِ كلِّ أَرَبٍ، وعَدَمِ الإحسان بكلِّ طلب.
وتائب يرجع لحظِّ نَفْسِه من جزيل ثوابه أو حَذَرًا- على نفسه- من أليم عذابه، وتائب يرجع لأمره برجوعه وإيابه، وتائب يرجع طلبًا لفرح نفسه حين ينجو مِنْ أوضاره، ويخلص من شؤم أوزاره، وتائب يرجع لَمَّا سمع أنه قال: إنَّ اللهَ أَفْرَحُ بتوبةِ عَبْدِه من الأعرابي الذي وَجَدَ ضَالَّتَه- كما في الخبر، وشتَّان ما هما! وأنشدوا:
أيا قادمًا من سَفْرَة الهَجْر مَرْحَبَا ** أُنَادِيكَ لا أنساكَ ما هبَّتْ الصَّبَا

وأمَّا قوله: {العَابِدُونَ}: فهم الخاضعون بكلِّ وجه، الذين لا تَسْتَرِقُّهم كرائمُ الدنيا، ولا تستعبدهم عظائمُ العُقْبَى. ولا يكون العبدُ عبدًا لله- على الحقيقة- إلا بعد تجرُّدِه عن كل شيءٍ حادثٍ. وكلُّ أحدٍ فهو له عَبْدٌ من حيث الخِلْقة؛ قال تعالى: {إن كُلُّ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ ءاتِى الرَّحْمَنَ عَبْدًا} [مريم: 93]. ولكنَّ صاحبَ العبودية خاصٌّ.
قوله جلّ ذكره: {الحَامِدُونَ}.
هم الشاكرون له على وجود أفضاله، المُثْنُونَ عليه عند شهود جلاله وجماله.
ويقال: الحامدون بلا اعتراضٍ على ما يحصل بقدرته، وبلا انقباضٍ عما يجب من طاعته.
ويقال الحامدون له على منعه وبلائه كما يحمدونه على نفعه وعطائه.
ويقال الحامدون إذا اشتكى مَنْ لا فُتُوَّة له المادحون إذا بكى مَنْ لا مروءةَ له.
ويقال الشاكرون له إنْ أدناهم، الحامدون له إن أقصاهم.
قوله جلّ ذكره: {السَّائِحُونَ}.
الصائمون ولكن عن شهود غير الله، الممتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله.
ويقال السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الاعتبار طلبًا للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغاربها بالتفكُّر في جوانبها ومناكبها، والاستدلال بتغيُّرها على مُنْشِئِها، والتحقق بحكمةِ خالِقها بما يَرَوْنَ من الآيات فيها، ويسيحون بأسرارهم في الملكوتِ فيجدون رَوْحَ الوصال، ويعيشون بنسيم الأنْسِ بالتحقق بشهود الحق.
قوله جلّ ذكره: {الرَّاكِعُونَ}.
الخاضعون لله في جميع الأحوال بخمودهم تحت سلطان التجلِّي، وفي الخبر: «إن الله ما تجلَّى لشيءٍ إلا خَشَع له».
وكما يكون- في الظاهر- راكعًا يكون في الباطن خاشعًا، ففي الظاهر بإحسان الحقِّ إليه يُحْسنِ تولِّيه، وفي الباطن كالعيان للعيان للحقِّ بأنوار تجلِّيه.
قوله جلّ ذكره: {السَّاجِدُونَ} في الظاهر بنفوسهم على بِساط العبودية، وفي الباطن بقلوبهم عند شهود الربوبية. والسجود على أقسام: سجود عند صحة القصود فيسجد بنعت التذلل على بساط الافتقار، ولا يرفع رأسه عن السجود إلا عند تباشير الوصال. وسجودٌ عند الشهود إذا تجلَّى الحقُّ لقلبه سَجِدَ بقلبه، فلم ينظر بعده إلى غيره، وسجودٌ في حال الوجود وذلك بخموده عن كليته، وفنائه عن الإحساس بجميع أوصافه وجملته.
قوله جلّ ذكره: {الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ}.
هم الذين يَدْعُون الخَلْقَ إلى الله، ويُحَذرونهم عن غير الله. يتواصَوْن بالإقبال على الله وتَرْكِ الاشتغال بغير الله. يأمرون أنفسَهم بالتزام الطاعات بِحَمْلِهم إياها على سَنَن الاستقامة، ويَنْهَوْن أنفسَهم عن اتِّباع المنى والشهوات بِتَرْكِ التعريج في أوطان الغفلة، وما تعودوه من المساكنة والاستنامة.
والحافظون لحدود الله، هم الواقفون حيث وقفهم الله، الذين لا يتحركون إلا إذا حَرَّكَهم ولا يَسْكنُون إلا إذا سكنهم، ويحفظون مع الله أنْفَاسَهُمْ. اهـ.

.قال التستري:

قوله: {التائبون العابدون} [112].
قال سهل: ليس شيء في الدنيا من الحقوق أوجب على الخلق من التوبة، فهي واجبة في كل لمحة ولحظة، ولا عقوبة عليهم أشد من فقد علم التوبة.
فقيل: ما التوبة؟ فقال: أن لا تنسى ذنبك.
وقال: أول ما يؤمر به المبتدئ التحويل من الحركات المذمومة إلى الحركات المحمودة، وهي التوبة؛ ولا تصح له التوبة حتى يلزم نفسه الصمت، ولا يصح له الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة، ولا تصح له الخلوة إلاَّ بأكل الحلال، ولا يصح له أكل الحلال إلاَّ بأداء حق الله تعالى، ولا يصح له أداء الحق إلاَّ بحفظ الجوارح والقلب، ولا يصح له ما وصفنا حتى يستعين بالله عزَّ وجلَّ على جميعه.
فقيل: ما علامة صدق التوبة؟ قال علامتها أن يدع ما له سوى ما ليس له.
وسئل سهل عن الرجل يتوب ويقلع عن ذلك الذنب، ثم يخطر ذلك بقلبه أو يراه أو يسمع به فيجد حلاوة ذلك الذنب السيء كيف الحيلة فيه؟ فقال: وجدان الحلاوة من الطبع لا يتحول، فيصير المحبوب مكروهًا؛ ولكن يقهر عزم القلب فيرجع في ذلك إلى الله عزَّ وجلَّ، ويرفع إليه شكواه، ويلزم نفسه وقلبه الإنكار ولا يفارقه، فإنه إن غفل عن الإنكار طرفة عين تخوفت عليه أن لا يسلم منه.
قال: دعوا القال والقيل كله في هذا الزمان، عليكم بثلاث: توبوا إلى الله عزَّ وجلَّ مما تعرفوه بينكم وبينه، وأدوا مظالم العباد التي قبلكم، فإذا أصبحتم فلا تحدثوا أنفسكم بالمساء، وإذا أمسيتم فلا تحدثوا أنفسكم بالصباح، لأن الأحداث قد كثرت، والخطر عظيم، فاتقوا الله، وألزموا أنفسكم التوبة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (113):

قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر بالبراءة من أحياء المشركين وجاء الأمر أيضًا بالبراءة من أموات المنافقين بالنهي عن الدعاء لهم، جاءت هذه الآية مشيرة إلى البراءة من كل مشرك فوقع التصريح بعدها بما أشارت إليه، وذلك أنه لما ثبت بهذه الآية في تقديم الجار أن المبايعة وقعت على تخصيص الجنة بالمؤمنين وأنه تعالى أوفى من عاهد، ثبت أنه لا يجوز أن يدخل غيرهم الجنة وأن غيرهم أصحاب النار، لأنه قد علم أن الآخرة داران: جنة ونار، ولما ثبت هذا كله علم قطعًا علم النتيجة من المقدمات الصحيحة أنه {ما كان} أي في نفس الأمر {للنبي} أي الذي لا ينطق إلا بما عنده فيه بيان من الله: {والذين آمنوا} أي أقروا بأنهم صدقوا بدعوته فلا يفعلون إلا ما عندهم منه علم {أن يستغفروا} أي يطلبوا المغفرة ويدعوا بها {للمشركين} أي الراسخين في الإشراك في عبادة ربهم {ولو كانوا} أي المشركين {أولي قربى} أي للذين آمنوا {من بعد ما تبين لهم} أي بموتهم على الشرك وإنزال هذه الآية للختم بالتخصيص بالجنة {أنهم أصحاب الجحيم} أي لا أهلية لهم للجنة.
فإن الاستغفار معناه محو الذنوب حتى ينجو صاحبها من النار ويدخل الجنة وما ينبغي لهم أن يكون لهم إليهم التفات فإن ذلك ربما جر إلى ملاينة تفتر عن القتال الواقع عليه المبايعة، فما ينبغي إلا محض المقاطعة والمخاشنة والمنازعة.
وتقييد النهي بالتبيين يدل على جواز الدعاء للحي فإن القصد بالاستغفار الإقبال به إلى الإيمان الموجب للغفران. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}
اعلم أنه تعالى لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم، وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: [في سبب نزول الآية]:

ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهًا.
الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما فتح الله تعالى مكة سأل النبي عليه الصلاة والسلام: «أي أبويه أحدث به عهدًا» قيل أمك، فذهب إلى قبرها ووقف دونه، ثم قعد عند رأسها وبكى فسأله عمر وقال: نهيتنا عن زيارة القبور والبكاء، ثم زرت وبكيت، فقال: «قد أذن لي فيه، فلما علمت ما هي فيه من عذاب الله وإني لا أغني عنها من الله شيئًا بكيت رحمة لها».
الثاني: روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: «يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب.
فقال: أنا على ملة عبد المطلب فقال عليه الصلاة والسلام: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فنزلت هذه الآية قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} قال الواحدي: وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولًا، ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام، وأقول هذا الاستبعاد عندي مستبعد، فأي بأس أن يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية، فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة فلعل المؤمنين كان يجوز لهم أن يستغفروا لأبويهم من الكافرين، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضًا يفعل ذلك، ثم عند نزول هذه السورة منعهم الله منه، فهذا غير مستبعد في الجملة.
الثالث: يروى عن علي أنه سمع رجلًا يستغفر لأبويه المشركين قال: فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
الرابع: يروى أن رجلًا أتى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: كان أبي في الجاهلية يصل الرحم، ويقري الضيف، ويمنح من ماله.
وأي أبي؟ فقال: «أمات مشركًا؟» قال: نعم.
قال: «في ضحضاح من النار»، فولى الرجل يبكي فدعاه عليه الصلاة والسلام، فقال: «إن أبي وأباك وأبا إبراهيم في النار، إن أباك لم يقل يومًا أعوذ بالله من النار».